فى كل مرة أعود من اجازتى الجميلة الطويلة فى مصر لاأشعر بأى رغبة فى إستئناف حياتى فى أمريكا. لاتتملكنى الرغبة فى العودة للعمل او الإقبال عليه. أمضى اياما فى البيت معللة لنفسى تعب الرحلة. عناء السفر ومايتبع كل ذلك.
أقول لنفسى ” عايد عليك ايه ياسومة م التعب ده كله. تفضى شنط..وتملى شنط. تنضفى بيت..وتفتحى آخر. تغسلى ثلاجة وتغلقى اخرى. تسافرى بالأميال وبساعات تتخطى ال 20 ساعة. اللى ف سنك قفل النمر من زمان”.
تظل هذه هى حالتى..ولو حدث وذهبت إلى المدرسة..اقدم رجلا وأاؤخر الأخرى.
هذه المرة..كان الأمر مختلفا!!
إرتاحت يوما من عناء السفر والرحلة الطويلة. ثم ذهبت إلى العمل..المدرسة. إرتديت ملابسا أنيقة. ذهبت مبكرة عن المعتاد. وبدأت يومى وكلى نشاط وحماس. كأن الشمس تشرق داخلى!!
تساءلت..لماذا!! هل لأنى أمضيت خمسة أشهر بلا عمل من جراء كورونا! هل لأنى اخذت أجازة طويلة فى مصر تقترب من الشهرين بعد أن بدأت الدراسة وفى “عز الشغل”! هل لان المرضى من المدرسين كثيرون!! والإحتياج إلى المدرسين الأخرين أكثر! هل لانه لم يطلب منى الحجر الصحى بعد عودتى من الشرق الأوسط الذى يعج بكورونا وأمريكا التى تتبوأ الصدارة فى الفيروس!
لااعلم.. لكن الذى أعرفه أن طاقة من الأمل تفتحت داخلى. رأيت التلاميذ وكل طاقم المدرسة يضع الماسك اللعين على وجهه. يتناوولون أطعمتهم داخل الفصل. يمارسون حصة التربية الرياضية فى الفناء الخارجى. المدرس الذى يصاب بكورونا يجلس فى البيت ١٤ يوم وكذلك من يعيش معه فى البيت. لاعجب أن الكثير من المعلمين متغيبون لسبب او لآخر.
مع ذلك يرتدى الناس أحلى ماعندهم. ويضعون مع ذلك “الماسك” يستعدون لمواسم الأعياد. أعياد الشكر والكريسماس. أعياد الخير والبركات…
إنه الأنسان الذى يرفض أن يخضع للمرض. للكسل..يرفض الموت. إعدوى حب الحياة التى طالتنى أنا الأخرى..ودفعتنى إلى الخروج والعمل.
تطلب مصر من كل القادمين إليها عمل تحليل\إختبار الكورونا ويطلق عليه PCR – قبل أن تسمح لهم بالدخول إلى أراضيها. تشترط أن يكون مضى 72 ساعة من تاريخ بداية التحليل ثم إرتفعت إلى 96 ساعة بالنسبة لعدة دول بما فيهم أمريكا ودولا أخرى بسبب طول المسافات. يجب أن يتم فى احدى المعامل الطبية الموثوق بها، وأن يكون مختوما stamped.!!
تقوم الدول الأجنبية والعربية بتنفيذ هذا القرار وتحرى الدقة المفرطة فى عدد الساعات والإلتزام بتنفيذه. قد تحيل حياة المسافرين إلى جحيم إذا لم يتم الألتزام بهذه القرارات بحذافيرها.
لكنك عندما تصل إلى مطار القاهره.. لايحفل أحد بهذا الإختبار. لاينظر إلى عدد الساعات. لايتبين مصداقيته.. فهو مكتوب باللغة الإنجليزية التى لايجيدها معظم العاملين. لايهتم أحد إن كنت ترتدي “ماسكا” أم لا!! قد تقاس درجة حرارتك أم لا!
لاأقلل من شأن السلطات أو أستخف بالعاملين .. لكنه واقع موجوود أكتب عنه. كنت وغيرى ضحايا لهذا القرار د.
أمريكا لاتطلب منك إى إختبار للمرور أو الإقامة فى أراضيها. لاحتى تقيس درجة حرارتك. لكن تصر أن ترتدى الماسك اللعين والأيفارق أنفك طوال ساعات السفر وأثناء لإاجراءات. لاعجب!! فهى أكثر دول العالم فى أعداد الإصابات والوفيات من كورونا!!
لكن قد تكون أمريكا أكثر توافقا وصراحة مع نفسها دون مصر!!
ليس هذا تحيزا على الإطلاق – إنما هو إقرار لحقائق ووقائع وعالم أعيشه بين البلدين الحبيبين.
فى أمريكا يجب أن يرتدى الجميع الماسك اللعين على الوجه. فى المدارس..فى الشوارع، فى المحال التجارية.. أماكن التسوق.
من يشعر بأى أعراض “الست كورونا” يقوم بإخبار الجهة التى يعمل بها ليقوم بعمل حجر صحى له فى بيته وكذا أ فراد أسرته المقربين منه، يجب أن يتوقفوا عن الذهاب للعمل، مع توخى الحذر وتناول الأدوية المساعدة. لاخجل أو مواربة فى ذلك.
عادى أن أذهب إلى المدرسة ليخبرنى المعلم هاتفيا أنه ليس مريضا ولكن زوجته.. ويجب أن يلتزم بالحجر الصحى ولايأتى إلى المدرسة حتى لايكون حاملا للميكروب أو العدوى للتلاميذ.
يأخذ الناس هنا حقنة ألأنفلونزا مجانا والبعض يأخذ حقنة ضد الإلتهاب الرئوى يظل مفعولها خمسة أعوام بتوصية من الطبيب المباشر.
تشعر فى أمريكا أن فى كورونا ولا كورونا فى نفس الوقت. فالناس تذهب أعمالها.. المدارس تعمل.. البعض يذهب للتسوق، الإحتفال بالأعياد.. لكنه يراعى كل إجراءات السلامة والوقاية قدر المستطاع.
أما فى مصر التى تطلب هذا الإختبار.. فقد نسيت تماما أثناء أجازتى أن فى شئ إسمه “الست كورونا” لاأحد يرتدى ماسكا.. وإن كان بالعدد قليل جدا.. ويثير الأنتباه. الحفلات.. الدعوات.. الاندية.. اللقاءات.. الأفراح.. كل هذا الوقت الجميل الذى عشته فى مصر دون أن أتذكر كورونا.. بل الحفاوة والحب والأحضان الحارة التى قدمها لى أصدقائى وأهلى جعلنى أقول” هى فين كورونا دى!!” مصر بلا كورونا.. إنها أكذوبة. فلاأثر لكورونا فى مصر.
تعيش وتحيا وتحب الحياة فى مصر.. لا كورونا. إلا أذا كنت ذاهبا إلى البنك الذى يحول حياتك جحيما فقط لكى تدخل وأنت ترتدى الماسك.!!كأنك داخل أبواب الجنة.. وماإن تدخل قد لاترى العاملين فى الداخل يضعونه!!
المدارس لاتعمل فى مصر..بحجة كورونا!! وإن عملت فليس بكامل طاقتها. والأولاد يأخذون دروسا خصوصا.. يكون الدرس الخصوص 15 تلميذا.. لايرتدون كمامات!! إنه العبث بعينه!!
لو كنت فى مصر وتسافر إلى بعض الدول العربية أوالإفريقية التى تطلب مثل هذا الإختبار.. فعليلك أن تدفع 2500 جنيها للتحليل العادى و3500 للمستعجل!! رأيت شبابا يقفون فى طوابير لعمل مثل هذا الإختبار الغالى التكاليف على جميع المستويات!
هل كورونا فى أمريكا!! هل موجودة فى مصر!! هل حق أم أكذوبة قدمتها الدول لشعوبها لتعطى لنفسها الحق فى صنع عقار مضاد تدفع ثمنه الدول الأخرى بالملايين. هل باعوا لنا الوهم.. وعبوا لنا الهواء فى “أزايز” كما يقولون !!
ليس عتابا على مصر.. ليس تحيزا لأمريكا… لكنه الواقع الذى نعيشه فى هذا العام الكبيس 2020 يكون فيه الفرد ضحية لأكاذيب الحكومات، تناقضاتها وعبثها!
أعيش نهاية قصة حب حزينة مع إحدى صديقاتى الأمريكينيات. فى الثلاثين من عمرها.. جميلة.. هيفاء.. نشيطة.. ذكية.. رياضية.. متقدة حماس.. أجمل مافيها عفويتها وتلقاءيتها.
عاصرت معها الكثير من الأحداث الحلوة.. والمؤلمة. أخرها قصة حبها مع صديقها الثانى. التى دامت لما يقرب من عامين. بعد أن هجرها حبيبها الأول من أجل إمرأة أخرى. قصة معادة ومكررة.. لايغفلها المحبون!
إستقرت مع صديقها الثانى.. – الذى لم أرتح له -. وجدتها سعيدة.. مطمأنه. يتشاركان فى الكثير من الأنشطة المختلفة التى تجعل العلاقات أكثر جذابية.. وأطول عمرا. فكلما إشترك العاشقان أو الزوجان فى أشياء مشتركة – كلما أضفى هذا على علاقتهما الكثير من الحيوية وجعلها أطول عمرا.
فجأة وبدون مقدمات إختفى صديقها الثانى دون إبداء الأسباب أو حتى أن يخبرها بذلك. يالها من صاعقة!.. من ألم تعيشه المرأة. حين يعتصر قلبها. تتهشم كرامتها. يسقط كبرياءها فى سلة الأهمال والنكران، بعد أن تكون قد قدمت كل مالديها من أجل علاقة حكم عليها بالإعدام رميا بالرصاص!!.
طبعا لاأريد أن أقول لها “فتش عن المرأة” cherche la femme فالرجل بطبيبعته يعبد حريته. يكره القيود. يفضل أن يظل طيرا حرا طليقا.. يحلق من زهرة إلى زهرة. يكبله الزواج…تعافى نفسه الإلتزام.. يفضل أن يظل واقفاع “العتبة” حتى يستطيع أن يولج وأن يخرج.. دون قيود.
يترك الرجل المرأة إلى إمرأة أخرى ليست بالضرورة أكثر جمالا أو ذكاءا بل قد تكون أكثر سخونة وأشد حرارة. المرأة غالبا ماتذهب إلى رجل أخر أكثر ثراءا وأقوى نفوذا. كل هذا تحت إسم الحب وأحيانا تحت شعار “القسمة والنصيب” فى مجتمعاتنا.
هذا الحب والأمه.. أراه وأشعر به هنا فى أمريكا.. فى هذا المجتمع المفتوح.. الذى يبيح كل شىئ ويسمح بكل شئ. رغم ذلك يعيش الأنسان هنا معذبا.. محطما وفى كثير من الأحيان وحيداّ. يحب..يعشق..واحيانا يتزوج..ثم يحدث الطلاق..لماذا! إنه هوى النفس وضعفها.
يعانى الشباب فى مصر من القيود. غلاء نفقات الزواج.. صعوبة التعرف على الطرف الأخر والعديد من الموروثات والتقاليد.. يقاسى الشباب هنا فى أمريكا من الحرية.. المفرطة وإنفراط العقد. هكذا هو الأنسان.. دائما فى حالة معاناة.. فى حالة بحث عن الراحة والسعادة.. وكلما أفرط فى البحث.. كلما أفرط فى شقاء نفسه وشقاء من حوله.
لاتزال لعبة الحب بين الرجل والمرأة قائمة على مدى العصور. تأخذ صورا عد لنفس القصة!!. تبدا بالورود والإبتسامات وتنتهى غالبا بكثير من الدموع والمزيد من الأهات.
أتكلم عن الحب وأنا أجلس على مقاعد المتفرجين. عبرت أهاته. شفيت من آلامه. أغلقت بابه. إنتهيت من إنتظاره. أكتفى بالإستماع إلى حكاوى المحبين. التعايش مع آلامهم. مشاركتهم سعادتهم.. ولحظات حماسهم للحياة.. والكثير من عذابهم الذى يصيبنى فأكتب عنه!
ماذا أقول لصديقتى الشابة الجميلة!! لاأملك سوى ان أستمع إليها. أحنو عليها. أتواصل معها.. لكن أدرك ان ثقافتها ا الغربية ومفاهميها سوف تدلها على الحل.
إنها الحضارة الغربية العملية التى لاتبكى على الأطلال . تعمل بمبدا “داووينى باللتى هى الداء”. فاذا كان رجلا قد هرب.. فالرجال كثيرون.. الحياة لاتعنى سوى اليوم.فقط. فالأمس ولى وفات.. والغد فى علم الغيب!. بينما فى عالمنا الشرقى قد تتوقف الحياة تماما بفراق أحد أو تكف الساعة عن الدوران بإختفاء زوج!!
مهما قيل عن الحب وسنينه يظل الحب عاطفة رائعة.. راقية.. نورانية. تجلى الروح.. تضئ القلب.. تشع ضياءا فى الحياة. لايقف فقط على علاقة الرجل والمرأة.. !! لاأتصور الحياة .بدون حب الأهل..الأسرة، الأصدقاء.. الأولاد.. الأحفاد والوطن. بدون حب ليست حياة ، يتوقف كل شىئ على التدفق والدوران. إنه الموت.. بل العدم.
يعتبر وال مارت اكبر مركز للتسوق فى مدينتى الصغيرة. تم تأسيسه فى عام 1962 بواسطة سام والتون فى ولاية أركنساس. وتوسع وأمتدت فروعه فى كل أمريكا وفى الصين. هونج كونج.. أوروربا.. جنوب إفريقيا .. كندا وغيرها من البلاد.أليس والتون – الإبنة الوحيدة لسام والتون
ووريثته مع أخويها أغنى أمرأة فى أمريكا. . وتبلغ ثروتها 55 مليار دولار. ولايعرف الكثير عن الحياة الخاصة لهذه السيدة السبعينة. وفيما تنفق ثروتها إلا أنها تعشق الفن وتهوى الخيول الأصيلة.
تجد فى “وال مارت” كل ماتتخيله.. من الإبرة إلى الصاروخ كما يقولون. لاتستطيع أن ترى أبعاده على مرمى البصر. فهو واسع.. كبير.. يرتاده الجميع. يفتح أبوابه من السابعة صباحا الى الحادية عشر مساءا.ولا يغلق إلا يوم الكريسماس.
يعجبنى هنا طريقة إسترداد البضاعة. فإذا اشتريت شيئا وأردت أن تسترد ثمنه فى أى وقت ، عليك أن تظهر فاتورة الشراء..وإذا لم تكن معك “زيى” مثلا لأنى دائما أفقد الفاتورة التى إشتري بها.. تسألنى البائعة على كارت الإئتمان الذى إشتريت به..تتأكد منه وأسترد الفلوس..لاتسألنى لماذا أرد البضاعة أو تسأل عن تاريخها أو حتى تفحص حالتها. لذا فأنه مهما إشتريت أى شئ تستطيع أن تسترد ثمنه حتى لو أستعملته.
لاأحب التسوق.. ولاأهواه كثيرا.. على عكس معظم النساء. فإنى لاأذهب إلى التسوق إلا للضرورة القصوى.
ذهبت إلى “وال مارت” قريبا.. فوجدت أنه إبتدع طريقة أن يقوم كل فرد بوزن بضاعته.. اووضع “الكود” الخاص بالملابس وغيرها.. ثم يقوم بالدفع بنفسه. لايذهب إلى “الكاشير” أو register. . يعنى إيه!.. يعنى تشترى اللى انت اعاوزه وتوزنه بنفسك ويظهر لك السعر. وهلم جرا. بإختصار تتشترى بنفسك وتحاسب بنفسك.. وتمشى. لاأحد يراجع عليك ماأشترته. لاأحد يسألك على الفاتورة.
هل هذا يساعد الناس على السرقة!! فإذا أنت أشتريت عشرة أشياء وقمت فقط بمحاسبة فقط ثلاثة أشياء..فلن يراك أحد، سوى ضميرك.. أنت مع نفسك!!
نعم توجد كاميرات فى كل مكان.. لكن المكان مزدحم.. ولاأحد يقف يلاحظك.. كل واحد مع نفسه. وعند الخروج لايسألك أحد على “الفاتورة”!!
سألت بعض صديقاتى هنا على هذه الطريقة فى الشراء ودفع الحساب. فقلن لى.. نعم قد تحدث سرقة.. لكننا نحاول أن نعلم الناس الأمانة. أضفن أنه قد يستوقفك أحد ويسألك عن الفاتورة.. فإذا وجد أن العميل لم يدفع كل شىء.. يقولون له بأدب يبدوا أنك نسيت أن تحاسب على هذه البضاعة.. وذلك حرصا على عدم جلب الشرطة أو إحراج الشخص.
هل هذه طريقة مثالية!.. تخفف العبء على الوقوقف فى الطوابير!. تقلل كذك من عدد العمالة!! فالنفس أمارة بالسوء.. بالتأكيد هناك البعض الذين لايذكرون مايشترونه أو يدفعون ثمنه. فالإنسان هو الإنسان..والناس ليسوا ملائكة. لكنى لم أسمع حتى الأن عن حادثة مخالفة أو تعدى!!
تساءلت. ترى هل يمكن تطبيق مثل هذا النظام فى الشراء والمحاسبة فى مصر أم سيدفع الناس إلى كثير من التجاوزات.. الله أعلم.
أمضيت أربعة اسابيع فى البيت، حيث أغلقت المدارس أبوابها مرة أخرى بسبب اللعينة كورونا. كنت أحصل فيهم على بدل البطالة الذى تقدمه الحكومة للمتضررين والذين فقدوا بعضا من وظائفهم بسبب “الست “كورونا.
بدأت المدارس الأسبوع الماضى تفتح أبوابها على إستحياء. معظم التلاميذ يتلقون دروسهم فى البيت من على بعد. يأتى القليل منهم إلى المدرسة. سألت نفسى.. هل أجلس فى البيت، أمضى النهار كله بمفردى. أرتدى “بيجامتى” لا أبارح البيت إلا قليلا.. مشغولة فى الأعمال المنزلية والجلوس أمام الكمبيوتر!! وأحصل على بدل البطالة السخى الذى تقدمه الحكومة للمتضررين من هذا الفيروس اللعين. والذى يفوق ماأحصل عليه من عملى المتواضع!! أم أستيقظ مبكرا، أتأنق. أرتدى ملابسى. أذهب إلى المدرسة. أضع “الماسك” على وجهى لايفارقه. أقضى وقتا مع التلاميذ. أقدم عملا نافعا!! ظلت الأفكار تتأرجح داخل رأسى.
فى زحمة حيرتى.. وصلتنى رسالة من معلمة فى إحدى المدارس التى أعمل بها.. والقريبة من البيت. لاأعرفها.. قالت فيها أنها مريضة وستجرى عملية حرجة. أضافت ان المشفى وافق على إجراء هذه العملية لها رغم إزدحام المشفيات بمرضى كورونا نظرا لحالتها الصحية. سألتنى أن كنت أن أنوى أعمل بدلا منها لمدة أسبوع أو قد يزيد طوال فترة مرضها!!
أحيانا يرسل الله لك الإجابات.. ويبعث لك برسائل تحسم الخلاف الكائن داخلك. هاهى سيدة تستجير بى.. تريد أن تقوم بعملها لكن صحتها تمنعها من ذلك. ربما بعض المدرسين مثلى قد يمتنعون عن العمل بحجة “الملعونة كورونا” وليحصلوا على بدل البطالة.
أصبحت أنظر إلى العمل وأهميته بالنسبة لى نظرة مختلفة عن ذى قبل بعد أعوام من الحياة هنا. العمل ليس فقط الراتب الذى تحصل عليه وتفى به متطلبات حياتك وأسرتك. إنه يعطيك معنا وقيمة لحياتك ووقتك.. والأهم من ذلك شعور بالزهو والكرامة.
شعرت أن من واجبى وضميرى أن أذهب إلى العمل طالما أنا قادرة – الحمد لله على القيام به.
حمدت الله على رسائله.. – رغم قسوة الجو وبرودته الفائقة.بدأت الأسبوع متسبشرة، متفائلة.
لكن ماذا حدث فى هذا الأسبوع مع الشياطين الصغار الذين لم تتجاوز أعمارهم العاشرة وبعد غياب أربعة أسابيع عن مدرستهم!! يحتاج إلى مقال جديد.. أحكيه لكم قريبا.
قضيت أسبوعا مع الاطفال فى سن العاشرة. تلاميذ.. حلوين.. شكلهم حلو.. لكنهم عفاريت.
الفصل حوالى 15 طفلا يجلسون متباعدين.. يضعون “الماسك” فوق أنوفهم. غابوا عن المدرسة أربعة أسابيع. إ فتقدوا أصحابهم. الفصل كان أشبه بحديقة الحيوان أو “جبلاية القرود”. كمية نشاط وكلام وحركات تفوق تصورى.
كنت أعمل بديلا لمعلمة لغة إنجليزية التى تركت لى الكثير من المهام والتعليمات. كشف الحضور والإنصراف، شرح الدرس، مراجعة أوراق الأنشطة التى يقوم بها التلاميذ و تصحيحها وإعطاءهم درجات. تنظيف المقاعد والأماكن التى يجلسون عليها بعد الإنتهاء من نهاية كل حصة. عدم السماح بذهاب اكثر من طفل إلى دورة المياه. عدم تناول الأطفال وجبة الغداء فة قاعة الطعام بل فى الفصل. التاكد من استعمالهم المنظف الخاص للأيدى. التأكد من وسيلة مواصلتهم بالسيارة أو “بأتوبيس” المدرسة. مجهود بدنى ونفسى وعصبى يفوق طاقتى.
الأطفال يتلقون دروسهم عن طريق google class – جوجل كلاس على الكمبيوتير الخاص بكل تلميذ. توفره المدرسة مجانا حتى نهاية العام ثم يترك فيما بعد. قد يدفع التلميذ غرامة 50 دولارا فى حال لم يحافظ على الكمبيوتير الصغير الخاص به.
كان عليهم تعلم أسماء الظرف وطريقة إستعمالها ووضعها فى جمل مفيدة. عن طريق مشاهدة فيديو.. قراءة.. حل تمرينات. وكذلك التعرف على تاريخ ألاباما فى الدراسات الأجتماعية.. قراءة كتاب وحل الأسئلة. إلى جانب علومهم فى الحساب والعلوم.
هنا لا يغادر المعلم الفصل.. بل يأتى اليه التلاميذ لتلقى الدرس. فمعلم اللغة الأنجليزية مثلا يقوم بشرح الدرس لمختلف التلاميذ الذين يأتون للغة الأنجليزية ثم يذهبون فى الحصة التالية الى معلمة الحساب ويأتى تلاميذ غيرهم. اليوم سبع حصص. بمعدل 15 تلميذ كل حصة. فانت تقوم بشرح وتصحيح والتعامل مع حوالى مائة تلميذ مختلف فى اليوم.
فى الأول بدأت أشعر بالنقمة على نفسى فى قبول مثل هذه المهمة التى سأعيشها لأأسبوع. لكنى قررت أن أتغلب عليها وأن أنفض عن كاهلى هذا الشعور بالإحباط.
بدأت أفوض بعض التلاميذ فى كل حصة بتنظيف المقاعد والمكاتب بالمنظف المطلوب. أخذت أسال منهم بتوزيع أوراق التدريبات الخاصة بهم. بدأت أجازى من يحصل على درجات عالية ببعض الحلوى. وأخيرا كنت أختار واحدا منهم أن يقوم بكتابة أسماء المشاغبين على السبورة والسماح بإزاحة هذه الأسماء إذا ماألتزمت بالهدوء.
أخذت أكتب لهم أسماءهم بالعربى . فرحوا بذلك جدا.. مثل Michael مايكل او مولىMolly – . وضعوا ورقة الإسم بالعربى على جباههم وعلى ملابسهم. أظهرت لهم العملات الورقية والمعدنية التى نستعملها فى مصر. والتى أحضرت منها الكثير. أخذوا يصرخون.. .wow.. cool. سألنى بعض منهم هل يمكن أن يحصل على العملة المعدنية من فئة الجنيه أو النصف جنيه.. لم أمانع. كان معى منها الكثيرجدا. بإختصار أعطيت الفصل كله العملة المعدنية من الجنيه أو غيره. أغبطونى.. أنزلوا على سعادة وحبور كنت إشتقت إليها مع حفيدى سليم والذى هو فى مثل عمرهم.
أحضرت لهم نموذجا مصغرا لأهرامات الجيزة وأبو الهول.. ولم أنتهى من أسئلتهم وفضولهم. تعلمت منهم وتعلموا منى.. سعدت بهم وسعدوا بى. أحاطونى بكلمات حب سعدت بها.
العمل مع الأطفال يختلف عن الكبار.. فالتلاميذ الكبار هنا يقومون بعملهم بمفردهم.. ولايطلب منى سوى الإشراف عليهم. غالبا ماأجلس أقوم بعملى من قراءة وكتابة وهم يقومون بالإنتهاء من تدريباتهم بمفردهم. لكن العمل مع الأطفال يتطلب تعليمهم.. ملاحظتهم.. الإشراف عليهم.. يكون اليوم مضنيا معهم.. لكنه مليئ بالحيوية.. مفعم بالحب.
عند إنتهاء الأسبوع..ودعنى التلاميذ بالكلمات الحلوة.. الصور الجميلة.. وقالوا أنى You are our favorite Substitute أفضل مدرسة.. يتمنون أن أعود إليهم ثانية وأن أكون معلمتهم دائما.
منذ إقامتى فى هذا المنزل والتى تجاوزت خمسة أعوام، لم أتبادل سوى بضع كلمات مع جارتى ، ميس (ش).
أمريكية من أصول أوروبية. مكتظة الجسم.. ترتدى دائما الملابس الأمريكية الصيفية من شورت أو فساتين قصيرة.. مفتوحة. تخطت الخامسة والستين أو يزيد.
دائمة الجلوس فى مدخل منزلها. تدخن سيجارتها. تمسك بتليفونها المحمول. لاتبادل التحيات أو السلام مع أحد من الجيران.
أحيانا ميس “ش” تمتطى عربة “قطع” الزرع وتقوم بقص زرع حديقتها. فى هذا الصيف لمحتها تقوم بطلاء باب الجراج.
عندما يشتد الصيف، تلقى بجسدها فى “حمام سباحة” بيتها. أحيانا تأتى إبنتها وطفلتيها الرائعتين مابين سن الثالثة والخامسة . ينزلون جميعهم فى المغطس.. تصلنى ضحكاتهم الصغيرة، كلماتهم، وهمهاتهم. ماأجمل العائلة!! ماأحلاها صحبة.
المرة الوحيدة التى تحدثت فيها مع “ميس ش”عندما سألتها عن أفضل مبيد حشرى للتخلص من الحشائش الزائدة فى الحديقة. وكنت أحاول أن أفتح معها حوارا. ساعدتنى وإنتهى.
يختلف عنها صديقها تماما. دائم الكلام مع الجميع. حكى لى عن لحظة إغتيال السادات. يهوى التاريخ. كثير العمل فى زراعة حديقة منزلهم. قص الزرع.
فى يوم ما وجدت “كيسا” كبيرا مملؤا بالخضروات الطازجة، فاصوليا خضراء، كوسة، فلفل رومى وخيار. تعجبت من الذى وضعه على عتبة الباب دون إشارة إلى هويته!!.. بعد محاولات، عرفت أنها جارتى الصامتة مييس “ش”. باكورة إنتاج حديقتها. قامت بوضع مثل هذه “الأكياس” إلى الجيران الأخرين. إنها طبيعة البشر تختلف من شخص لأخر.. فهى تبدو ليست ودودة أو إجتماعية.. لكنها على قدر من الكرم والذوق. تمنيت لو أستطيع أن أشكرها لكنها تفضل الا تتحدث مع أحد. بلغت صديقها بشكرنا.
منذ فترة لاحظت غياب سيارة جارتى ميس “ش”. هى دائمة ملازمة للبيت. نخرج جميعا.. ونعود لنجدها جالسة فى مدخل منزلها.
قلت ربما تراعى حفيدتيها لكن غيابها طال. إختفت سيارتها بالساعات. بعدها علمت أنها عادت إلى العمل. نعم عادت إلى العمل كممرضة فى إحدى المستشفيات التى تبعد عنا حوالى الساعتين بالسيارة. تخرج بسيارتها حوالى الرابعة عصرا لتعود فى اليوم التالى فى الثامنة صباحا. كل يوم ماعدا عطلة نهاية الأسبوع. تعمل ممرضة فى زمن كورونا!! لماذا.!! سؤال وجهته لنفسى!! لماذا!!!
ماالذى يدفع إمرأة ستينية أو ربما سبعينية أن تذهب للعمل فى هذه الظروف! تختلط بمرضى فى زمن الأوبئة!! مالذى يزج بها إلى القيادة فى هذا الجو الممطر العاصف الذى يجتاح مدينتى لايفرق بين صيف أو شتاء!! مالذى يجعلها تترك منطقتها الهادئة المريحة comfort zone، حمام السباحة، الحفيدات لتقتل نفسها فى هذا العمل المضنى الشاق!!. بالتأكيد ليس بسبب “الفلوس”!! هل بسبب الملل!! ربما. هل فراغ!! يجوز. هل العائد المادى مغريا إلى حد عدم الرفض!. لاأعلم.
لكنه عشق الحياة Passion . العشق الذى يجعلك تتمسك بحقك فى أنك لازلت قادرا على العطاء. “أن لك لزمة” دورك لم ينته. الفرق بين الدول الكبرى والدول النامية. الدول التى لديها من المشكلات من طلاق، إدمان تشرد أطفال لكن شعبها يرتدى أحسن ماعنده..يبدأ يومه ويعمل، بينما الأخرى تتعلل بالظروف. بلدان تضع سياجا حول شجرة إذا ما رأتها قد تسقط.. أخرى “تجز” أشجارها بلا رحمة. قدرة هذا الشعب على البدء فى منتصف الطريق. آخره. أوحتى تغيير المسار دون أن ينتبه لدواعى العمر.
ربما تعمل جارتى حتى عملا تطوعيا كى تشعر بقيمتها. بخبرتها تستطيع أن تساعد. تقدم.شيئا. تفيد أحدا. تداوى مريضا أو تشفى عليلا.
بغياب ميس “ش” معظم الوقت، وإنتقال جارتى المجاورة إلى مسكن آخر، أصبح المربع الذى أعيش فيه شبه مهجور. إزداد شعورى بالوحدة. تملكتنى الكآبة. تعمقعت داخلى فجوة الإغتراب. فقررت أن….
عادت مدراس المقاطعة هذا ة County School ل الأسبوع إلى كامل عملها. التلاميذ جميعهم فى الفصول.. طاقم التدريس فى قاعات الدرس.
إبتكرت هذه المدارس طريقة طريفة جدا للتعليم. المعلم الذى يعلم التلاميذ فى الفصل يستطيع التلاميذ الذين يجلسون فى البيوت أن يتابعوا الدرس تماما كأنهم حاضرون فى الفصل. والعكس صحيح. بمعنى المعلم الذى يفضل أن يعلم التلاميذ من على بعد لأن لديه ظروف تمنعه من الحضور إلى المدرسة. يقوم بفتح الشاشة ويقوم بالشرح للتلاميذ وهو فى البيت وهم فى الفصل المدرسى. تتم المتابعة بواسطة معلم فى الفصل. الله على العلم.. الله على التكنولوجيا. الله على الإنسان القادر على الإبتكار والتأقلم.
أقرت مدارس المقاطعة أن التلاميذ إبتداء من الصف الثانى الإبتدائى يجب عليهم وضع “الماسك” على الوجه طوال الوقت. الحفاظ على التباعد الإجتماعى. بالنسبة للأطفال تم وضع حواجز بين الأطفال. عدم الجلوس على السجادة لمشاهدة الفيديو، اللعب الجماعى أو القراءة. إلغاء حصة الموسيقى، حصة الألعاب. تخصيص مكان لكل فرد للجلوس فى قاعة الطعام. تخصيص مكان للأطفال للوقوف عليه للحفاظ على التباعد.
كان ممتعا أن أرى الأطفال – أربعة أعوام – وهم يجلسون على المقاعد بدلا الجلوس على السجادة الملونة كما هو متبع فى التعليم للحضانة. نعلمهم التباعد الإجتماعى بجعل كل طفل يمسك لونا معينا فى يده حتى لايكون قريبا من زميله.
بالنسبة للمدارس الخاضعة للمدينة City Schools لازال التلاميذ جميعهم يتلقون الدروس من على بعد حتى 8 سبتمبر. حيث ستقوم الأدارة التعليمية بتقييم هذه التجربة من الناحية التعلمية والصحية ومدى القدرة على التعامل مع الوباء.
عملت اليوم فى إحدى المدارس الثانوى المحببة إلى. إستقبلنى التلاميذ بالبشر والترحاب. أعرفهم منذ كانوا أطفالا فى المرحلة الإبتدائية أو قبلها. كبروا وأصبحوا رجالا فى طور الشباب وفتيات “حلوات زى الشربات”. مضى العمر.. مضى الوقت. هم يكبرون.. وأنا كذلك. سألونى عن حالى . حال أسرتى وكيف قضيت الأجازة الطويلة.. مما إستدعى داخلىى الإجابة عن هذا السؤال. سألنى البعض إن كنت قد ذهبت إلى مصر لزيارة الأهل. تبادلت معهم حديثا وديا مرحا.. من بعيد.
إرتدى غالبيتهم “الماسك”، منهم من كان يرتدى “ماسك خنافس”. شكلهم حلو بهذه الأقنعة. سألتهم كيف كانت أجازاتهم الطويلة قالوا كانت جيدة. أضاف بعض أنهم عملوا وحققوا الكثير من المال. فى “قص الزرع”، العمل فى مطعم أوفى مصنع للحديد، عيال “قرود”!!.
الشباب يجلب المرح. والتفاؤل. شكلهم.. طريقتهم.. ضحكاتهم.. تلقيهم للعلم.. يجعل الحياة أكثر حلاوة.
قلت وسط العتمة.. نلمح الضوء. اللهم بارك فى الشباب وإجعله عاما دراسيا جيدا للجميع. أعز مصر وشعبها.. أمين.!!